مــن فــوائد شــكر اللـه عــز وجـل
ذكرنا أن الشكر اتصاف بصفة من صفات الخالق سبحانه، وأنه اقتداء بالأنبياء وسير على منهاجهم، ولا شك أن للشكر فوائد أخرى، من أبرزها:
إنه عنوان النجاح في الابتلاء والامتحان الإلهي: ولا سيما عند فجاءة النعمة، أو بغتة البلاء، فطالما أطغت النعمة أقواما، وقعد البلاء بآخرين.
أما المؤمن الصادق فتراه ـ في الحالين ـ على قدم العبودية، وصدق اليقين، حامدا لربه، شاكرا لأنعمه، يستقبل كلا الأمرين بما حكاه الله تعالى عن نبيه سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ عندما جيء له بعرش بلقيس "فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم" (النمل: 40).
وهذا هو عين ما جاء به الإسلام، وبينه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" رواه مسلم.
المؤمن ثابت اليقين
فالمؤمن لا تطغيه السراء، ولا تنال منه الضراء، لأنه موقن أن الأقدار ـ في الحالين، جارية، وتقلُّب الأحوال ـ بالناس ـ سنة ماضية، ومهما ادلهم ليل الخطوب، واشتدت ظلمته، فإن في ثناياه أملا مرتجى، وفرجا قريبا، يمن به اللطيف المستجيب "فإن مع العسر يسرا. إن مع العسر يسرا" ولن يغلب عسر يسرين.
إنه سبب النجاة من العذاب ورفع الضيق وتفريج الكرب: قال تعالى: "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما" (النساء: 147)، ولما حاق العذاب بقوم لوط ـ بعدما تماروا بالنذر وارتكسوا في حمأة الفواحش والآثام ـ كانت النجاة نصيب الأطهار الشاكرين "إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر. نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر" (القمر: 34 ـ 35).
فليست النجاة لهم بخاصة، إنما هي جزاء الشاكرين إلى يوم الدين.
إنه فوز بمرضاة الله تعالى: لأن الشكر إذعان لأمر الخالق ـ سبحانه وتعالى واعتراف بنعمته وفضله، وصون لآلائه ونعمائه، عن الجحود والكفران، قال تعالى: "إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم..." (الزمر:7).
ورضا الخالق أغلى أماني العبد، وأسمى ما يطمح إليه، فمن حازه فاز بجماع الخير، وحل بحرز أمين "في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر" (القمر: 54).
إنه سبب زيادة النعمة: بذلك تأذن الله ـ عز وجل ـ ووعد وعدا قاطعا أن يديم نعمته على من شكره، وأن يزيده من فضله نعمة على نعمة "وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد" (إبراهيم: 7).
فعلق سبحانه المزيد بالشكر، والمزيد من الله لا نهاية له، كما لا نهاية لشكره، فزيادة النعمة علامة شكرها.
ومن زويت النعمة عنه، أو نقص نماؤها ـ فقد أوتي من قبل نفسه، فإذا ما دقق في أسباب ذلك وجد نفسه مقصرا في شكر النعمة قولا وعملا، فالله تعالى وعد بالحفظ والمزيد ما استقام العبد على الطاعة والإحسان "ذلك أن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد: 11)، فالتحول عن المعصية إلى الطاعة يبدل الله أهله خيرا، ويغير حالهم إلى الأفضل والأحسن، ومن يتبدل المعاصي بالطاعات ويجحد ولا يشكر، فإن الله له بالمرصاد.
فمن رام خفض العيش، ودوام النعمة والمزيد من الخير فليتخذ الشكر شعاراً، والحمد دثارا، فمتى جعل العبد الحمد خاتمة النعمة جعله الله تعالى فاتحة المزيد.
شكر الله وحمــده
قال صلى الله عليه وسلم : "إن المؤمن ليشبع من الطعام فيحمد الله تعالى فيعطيه من الأجر ما يعطي الصائم القائم، إن الله شاكر يحب الشاكرين".
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم: "أن عبدا من عباد الله قال: يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء، فقالا: ياربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله ـ وهو أعلم بما قال عبده ـ ماذا قال عبدي؟ قال: يا رب، إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي، حتى يلقاني فأجزيه بها" رواه ابن ماجه، وأحمد ورواته ثقات.
ومن كلام المغيرة بن شعبة: اشكر من أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، تستوجب من ربك الزيادة، ومن أخيك المناصحة، فإنه لابقاء لنعمة إذا كفرت، ولا زوال لها إذا شكرت.
ومن كلام أهل التحقيق: ما أنعم الله على عبد نعمة فظلم بها إلا كان حقاً على الله ـ تعالى ، أن يزيلها عنه ، ومن لم يشكر النعمة فقد استدعى زوالها.
فما قيدت نعمة ولا حفظت بأوثق من قيد الشكر، ولا ضيعت نعمة أو سلبت إلا بالإعراض والكفران "لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور. فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم ببغيهم وهل نجازي إلا الكفور" (15 ـ 17).
ولكم حذرنا ربنا ـ عز وجل ـ من بطر النعمة وكفرانها، وإساءة جوارها، وبين لنا أن ذلك لا يكون سبب زوالها فحسب، بل إنه سبب إهلاك أهلها ودمارهم "وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين" (القصص: 58).
فإذا ما وجد علاج لمرض القلوب التي بطرت النعمة فإن أنجعه يكون بتبصيرها بأن النعمة إذا لم تشكر زالت، وعودها بعد الزوال عسير.
قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد، واحذروا نقار النعم، فما كل شارد بمورد.
ومن كلام الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ عليكم بملازمة الشكر على النعم، فقل نعمة زالت عن قوم ثم عادت إليهم.
فالنعم وحشية، واستئناسها يكون بشكرها، فالشكر قيد النعمة الموجودة، وصيد النعمة المفقودة، والسعيد من تعلق منه بسبب وصبر على ذلك، ليسعد بالنعمة ويضمن دوامها وينجو من الهلاك.
اللهم اجعلنا من المهتدين الشاكرين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.